28 Mar
28Mar


عزيزى ثيو :


إلى أين تمضى الحياة بى ؟
ما الذى يصنعه العقل بنا ؟
إنه يفقد الأشياء بهجتها ويقودنا نحو الكآبة ..


إننى أتعفن مللا لولا ريشتى وألوانى هذه ، أعيد بها خلق الأشياء من جديد ..
كل الأشياء تغدو باردة وباهتة بعدما يطؤها الزمن ..
ماذا أصنع؟
أريد أن أبتكر خطوطا وألوانا جديدة ، غير تلك التى يتعثر بصرنا بها كل يوم .


كل الألوان القديمة لها بريق حزين فى قلبى .
هل هى كذلك فى الطبيعة أم أن عينىّ مريضتان؟
ها أنا أعيد رسمها كما أقدح النار الكامنة فيها .


فى قلب المأساة ثمة خطوط من البهجة أريد لألوانى أن تظهرها ، فى حقول (الغربان) وسنابل القمح بأعناقها الملوية .
وحتى (حذاء الفلاح) الذى يرشح بؤسا ..
ثمة فرح ما أريد أن أقبض عليه بواسطة اللون والحركة ...
للأشياء القبيحة خصوصية فنية قد لا نجدها فى الأشياء الجميلة وعين الفنان لا تخطئ ذلك .


اليوم رسمت صورتى الشخصية ففى كل صباح ، عندما أنظر إلى المرآة أقول لنفسى :
أيها الوجه المكرر ، يا وجه فينسنت القبيح ، لماذا لا تتجدد؟




أجلس متأملا:
لقد شاخ العالم وكثرت تجاعيده وبدأ وجه اللوحة يسترخى أكثر ...
آه يا إلهى ماذا باستطاعتى أن أفعل قبل أن يهبط الليل فوق برج الروح ؟
الفرشاة .
الألوان.
و بسرعة أتداركه , ضربات مستقيمة وقصيرة .
حادة ورشيقة ..
ألوانى واضحة وبدائية . أصفر ، أزرق ، أحمر ..
أريد أن أعيد الأشياء إلى عفويتها كما لو أن العالم قد خرج توًا من بيضته الكونية الأولى .


مازلت أذكر:
كان الوقت غسقا أو ما بعد الغسق وقبل الفجر .
اللون الليلكى يبلل خط الأفق ...
آه من رعشة الليلكى .
عندما كنا نخرج إلى البستان لنسرق التوت البرى .
كنت مستقرًا فى جوف الشجرة أراقب دودة خضراء وصفراء بينما (أورسولا) الأكثر شقاوة تقفز بابتهاج بين الأغصان وفجأة اختل توازنها وهوت .
ارتعش صدرى قبل أن تتعلق بعنقى مستنجدة .
ضممتها إلى وهى تتنفس مثل ظبى مذعور ...
ولما تناءت عنى كانت حبة توت قد تركت رحيقها الليلكى على بياض قميصى ..
منذ ذلك اليوم ، عندما كنت فى الثانية عشرة وأنا أحس رحيقها الليلكى على بياض قميصى ..
منذ ذلك اليوم ، عندما كنت فى الثانية عشرة وأنا أحس بأن سعادة ستغمرنى لو أن ثقبًا ليلكيًا انفتح فى صدرى ليتدفق البياض ...
يا لرعشة الليلكى...


الفكرة تلح على كثيرًا فهل أستطيع ألا أفعل ؟
كامن فى زهرة عباد الشمس ، أيها اللون الأصفر يا أنا .
أمتص من شعاع هذا الكوكب البهيج .
أحدق وأحدق فى عين الشمس حيث روح الكون حتى تحرقنى عيناى .


شيئان يحركان روحى : التحديق فى الشمس ، وفى الموت ..
أريد أن أسافر فى النجوم وهذا البائس جسدى يعيقنى !
متى سنمضى ، نحن أبناء الأرض ، حاملين مناديلنا المدماة ..


- ولكن إلى أين؟
- إلى الحلم طبعًا.


أمس رسمت زهورًا بلون الطين بعدما زرعت نفسى فى التراب ، وكانت السنابل خضراء وصفراء تنمو على مساحة رأسى وغربان الذاكرة تطير بلا هواء .
سنابل قمح وغربان .
غربان وقمح ...
الغربان تنقر فى دماغى .
كل شىء حلم .
هباء أحلام ، وريشة التراب تخدعنا فى كل حين ..
قريبًا سأعيد أمانة التراب ، وأطلق العصفور من صدرى نحو بلاد الشمس ..
آه أيتها السنونو سأفتح لك القفص بهذا المسدس ..


القرمزى يسيل .
دم أم النار؟


غليونى يشتعل:
الأسود والأبيض يلونان الحياة بالرمادى.
للرمادى احتمالات لا تنتهى : رمادى أحمر، رمادى أزرق ، رمادى أخضر .
التبغ يحترق والحياة تنسرب.
للرماد طعم مر بالعادة نألفه، ثم ندمنه كالحياة تمامًا , كلما تقدم العمر بنا غدونا أكثر تعلقا بها ...
لأجل ذلك أغادرها فى أوج اشتعالى..
ولكن لماذا؟!
إنه الإخفاق مرة أخرى .
لن ينتهى البؤس أبدًا...


وداعًا يا ثيو ..
سأغادر نحو الربيع ..

تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.
تم عمل هذا الموقع بواسطة